الجمعة، 8 نوفمبر 2013

لندن ♥ (17)



لم يكن سوى حلما يطارد نومي دائما كبقية أحلامي الغامضة ولكنه أكثر غموضا وروعة
مساحات شاسعة من المروج تكسوها أزهار بألوان متعددة وبينما أنا أعزف على البيانو
 في وسط الخضرة والأشجار والطيور حولي وكأنها تغني معي
يظهر رجلا نحيفا طويلا يرتدي حلة سوداء أنيقة تزيد قامته طولا وجاذبية
ثم يجذب يدي عنوة ويراقصني  فأقترب من وجهه وأفسر ملامحه
لأجده وسيما نظرته حنونة رائعة ، تؤسرني عيناه العسليتان ويخفق قلبي بعنف وأنا بين يديه
"ريهام الفطار يلا الشاي هيبرد "
هذا صوت جدتي أعيش معها منذ طفولتي بعد انفصال أبي وأمي
ياالله الآن استيقظت ضاع الحلم الجميل
جلست جدتي معي وهي تقص بعض الحكايات عن الأقارب والصديقات وعن صديقتها الوحيدة
التي تركتها بنتها وتحتاج إلى رفيقة معها في رحلة علاجها بلندن
انتفضت من مقعدي : ايه لندن ؟
-نعم مسكينة معها الفلوس ولكن مافيش حد تستأمنه على نفسها ويسافر معاها
بلا تردد هتفت : ممكن تستأمنني ؟
اليوم تطأ أقدامي  مدينة الغيوم مدينة أحلامي  لندن تلك المدينة التي حفها الغموض
ورأيتها في يقظتي ومنامي الآن أنا في مطار"لوتن" اصطحبت السيدة العجوز صديقة جدتي
وتركت جدتي وحيدة لا يهم ستجد من يخدمها بمنزلها ،على أي حال هي سعدت كثيرا بتطوعي لخدمة
صديقتها ، ارتدت معها القطار لوتن لازلت لا أصدق أنني هنا اتنسم رائحة المطر والاشجار بلندن
ووصلنا إلى الفندق الذي حجزنا به من القاهرة بكل سهولة ويسر فهو على بعد خطوات من محطة القطار التي وصلنا إليها بمحطة سانت بانكراس الفندق كان رائعا بخدمات ترفيهية لم تغفل شيئا
بالطبع كنت أعلم أن السيدة "درية" صديقة جدتي تمتلك الكثير من المال والثروة  ولكنني تفاجئت بحجم هذه الثروة بالفعل بمجرد دخولي إلى الفندق وكرمها بل بذخها معي واصرارها على أن نتسوق معا في المساء يوم وصولنا،
كانت ذاهبة لاجراء عملية جراحية بالقلب فهي أجرت العديد من الجراحات قبل ذلك بنفس المستشفى
ولكنها هذه المرة كانت تشعر أنها تودع كل شيء كانت تريد أن تنهل من متع الحياة قدر الإمكان تجولت أنا وهي بين المحلات من بوند ستريت إلى رويال اوركيد
كلما رأت شيئا أعجبني اشترته لي فورا أحذية وحقائب فاخرة وألبسة وحتى الشيكولا
شعرت بها كأم كنت أفتقد هذا الحنان بشدة رغم وجود جدتي ربما للحنان المادي احساس آخر
قبل عرضها هذا لم أرها مع جدتي سوى مرتين تقريبا
لكني كنت أسمع عن كرمها وقلبها الطيب المحب للخير دوما من جدتي ، كانت تحكي لي قصة حبها لزوجها الذي
عشقته وتزوجته رغم رفض أهلها فقد كان طبيبا ولكنه فقيرا يدرس بالخارج ، وسافرت معه إلى فرنسا حيث يكمل دراسته وتركت هي دراستها بمصر وعملت على راحته ، كان رجلا مكافحا بنى نفسه بنفسه
اشتهر ولمع نجمه في فرنسا وانجلترا وسويسرا أيضا
أنجبت منه ابنتها الوحيدة "سارة" التي تزوجت وسافرت مع زوجها إلى أمريكا كررت قصتها مع أهلها وتركتها
بعد وفاة زوجها بعامان الذي توفي فجأة وفاة غامضة فقد كان عائدا من مؤتمر علمي يحضره اشهر أطباء وعلماء العالم في سويسرا وكانت مدته أربعة أيام وصل لمنزله وهو يشتاق لزوجته وحبيبته قبّل وجهها بنهم
ثم شعر بضيق في صدره واختناق مفاجيء خلعت عنه سترته  حاول أن يفك ربطة عنقه وهو يتمدد على الأريكة
لكنه شعر بأن أطرافه ثقيلة جدا لا يستطيع تحريكها حاولت هي انعاش صدره وتدليكه وخلعت عنه ربطه عنقه وفتحت ازرار القميص حاولت بكل ماتعلمه عن الاسعافات الاولية ان تنقذه حتى رأت أطرافه تتراخي بشكل أرعبها
اتصلت بأحد أصدقاءه الأطباء الذي أتى في سرعة ليخبرها أنه توفى ، علمت بعد ذلك انه توفي بفشل في التنفس وهبوط في الدورة الدموية
ظلت على يقين أنه قتل ولكن لا شيء في معدته ولا في دمه يؤكد ذلك
وقتها عادت هي وابنتها إلى مصر لتنهل مما تركه لها من مال وخير وسمعة طيبة
ولكن ابنتها لم ترضى بالعيش بمصر فقد اعتادت الحياة بفرنسا وكان صعبا عليها أن تعتاد الحياة بمصر
ارتبطت بشاب عربي كان يزور مصر وتزوجته رغم رفض أمها وتركتها وسافرت معه لأمريكا حيث يعمل
انتقلنا أنا وهي للاقامة بالمستشفى التي ستجري فيها العملية وبدأت التحضير وتحدد موعد العملية بعد يومين
كنت أجلس معها أهتم بها وبوجباتها وأدويتها رغم وجود الممرضات اللاتي يهتممن بها كثيرا
وبالمساء كنت أنظر للفراغ والسماء من حجرتي كمرافقة لها المكان هادي جدا وكان يوجد بناية أعتقد أنها تابعة للمشفى أيضا ولكن ربما قسم آخر لا أدري ولكنني رأيت شابا جذب انتباهي وسامته ولمعة عينيه
انه يشبه ذلك الرجل الذي يزورني دوما بأحلامي
كان يمر في ممر المشفى ثم ينظر من الشرفة ينظر لي في عينايا تحديدا
نظرة ثاقبة وحنونة تعجبت لها جذب اهتمامي بشدة وصممت على أن أعلم ماهذا القسم وما هو مرض هذا الشاب وحالته بالضبط ، وجاء موعد عملية السيدة درية يومها نادتني أخبرتني أنها اتصلت بالمحامي وجعلت لي نصيب في وصيتها شكرتها وقلت لها أنه لا داعي لكل هذا فلم أعمل سوى واجبي وقبلتني واحتضنتني بشدة وكأنها تودعني
يومها لم أتحمل الوجود في الممر في انتظار انتهاء العملية نزلت إلى الحديقة فرأيته كان يرتدي ملابس بيضاء
فضفاضة وجاء يجلس إلى جواري دون حديث فقط ابتسامة هادئة على وجهه وتلك النظرة الغريبة
ثم وقف وهو ينظر لي وكأنه يقول اتبعيني لا أدري لماذا قمت من مكاني وسرت خلفه
كان يدخل في ممرات داخل المستشفى لم أرها من قبل حتى أنني أظن أنه لن يمكنني العودة بمفردي
من مكان ما أتيت حتى وصل إلى غرفة مغلق بابها مكتوب عليها بالفرنسية لم أفسر جيدا المعنى
ولكن ما هالني أنه اخترق الباب بجسده لم يفتحه بل مر من الباب كالهواء فتحت بيدي الباب
لم يفتح حاولت معه بشدة حتى فتح لأجد مجموعة أدراج عليها أرقام وهو واقف يمسك بأحد الأدراج
وينظر لي انها المشرحة انه ميت يحاول أن يدلني على جثته وماذا أفعل أنا بجثته وبماذا سأفيده
اغلقت الباب واتجهت مسرعة احاول العودة وخيل إلي أنني تهت في الممرات ارتبكت كدت أبكي حتى رأيت السيدة درية تقف أمامي : أين كنتِ ياريهام؟
لماذا تركتيني بمفردي ؟
أنا أبدا لم أتركك ،، ارتبكت بشدة وخرجت الكلمات مني تشبه التهتهة
ولكن هل مر الكثير من الوقت ؟ كيف تقفي أمامي هكذا ؟
ثم رأيت الجواب بعيني فقد كانت تسير تخترق الحائط بجسدها لا انها روحها وليس جسدها
هل ماتت أم ان روحها طلقة الآن ؟
أخيرا خرجت للحديقة رأيت أناس كثيرون يحملون ذات النظرة ويسيرون بهدوء بنفس طريقة سير ذلك الشاب
حاولت أن أسأل الموظفين إن كان بامكاني دخول المشرحة والتعرف على أحدهم وبالفعل دخلت المشرحة
وطلبت فتح الدرج الذي أراني إياه وسألتهم إذا كان معه ورق وعلمت أنه توفي اثناء اجراء عملية خطيرة
وأنه مصري ربما لأنني مصرية طلب مساعدتي هل كان يستنجد بي منذ أن كنت بمصر؟
أثناء اجراءه للعملية الجراحية
تركت هذا كله واتجهت مسرعة لغرفة السيدة درية ادعو الله أن تكون بخير
وعندما وصلت وجدت ابنتها لم أكن أعرفها ولكنني عرفتها من صورها كانت تقف حزينة أمام الباب تبتهل
تعجبت وسألتها كيف تركتها كل هذا وجاءت الآن ؟
لم تجب ونظرت لي نظرة تعالي لم أهتم لأمرها انتظرت الطبيب الذي أتى بخبر حزين السيدة درية ماتت
جلست أفكر كيف سأعود بجثتها أم أعود بجثتين بالتأكيد أن هذا الشاب يرجوني أن أعود به لأرض الوطن
" ياريهام ياكسلانة انا جبت الفطار و جيت لك اهو قومي بقى عشان أكملك حكاية الست صاحبتي عملت ايه "
هذا صوت جدتي من أين يأتي أكل هذا حلم ؟
حلم أم كابوس ؟
الكابوس هو ألا يكون كل هذا حقيقة لا سفر لا مال لا شيء؟ أي شيء ؟
فتحت عيوني لأجد جدتي تجلس على طرف الفراش وتضع صينية الافطار
وتقلب السكر في الشاي وهي تحكي  
"الست درية لاقت مرافق"

الخميس، 7 نوفمبر 2013

♥ الأمان ♥ (16)



منحها كل شيء ، إهتمام ، حنان، حب لكنها لم تشعر هذا الحب 
رغم سخاء عطاءه و فيض مشاعره
كان كلما نطقها : أحبك
غص حلقها واختنقت الكلمات بداخلها
تحاول  ان تقابل هذا العطاء بأي شيء أي مقابل أي قرب
أي اهتمام أي احتواء أي كلمة طيبة 
يمكنها ان تفعل كل ذلك بطيبة ، بحسن خلق ، بمقابلة المعروف بالمعروف ولكن ليس الحب 
فالكلمة تقف داخل صدرها تأبى النطق
ليس هناك شعور لتنطق بكلمة تدخرها داخل روحها زمن
لما؟
لماذا لا يوجد ذلك الشعور أمام كل هذه المنح
ربما لأن تلك المنح افتقدت الصدق ربما لأن الكلمة جرت على شفاهه ككلمة وليس كشعور حقيقي
وربما وفر كل شيء ونسي أهم شيء

"الأمان"

الامان ياسيدي هو الارتياح ، هو الصدق ، هو الثقة ، هو الحب ، هو السعادة الأبدية
الأمان الذي يجعلها تتحدث معك دون توقف عن كل شيء وأي شيء
وهو ما يجعلها ان فقدته تتوقف عن الحديث في أي شيء 
حتى وإن كان لديها ما تريد أن تقصه لك تخشى ،
تخشى أفكارك ، ظنونك ، ردود أفعالك، عدم اهتمامك الذي قد يجرحها ،
الأمان ياسيدي للمرأة كل شيء ، الأمان حياة
لذا عندما علمت أنها تفتقده معك شعرت بالتعاسة
تعاسة ان تكمل حياتها معك 
فتركت كل مامنحتها إياه عطاياك ، هداياك  كلها تركتها لك
حتى قلبك المفعم بالمشاعر تركته على الطريق وفرت هاربة في ليلة صيف
لملمت روحها واطلقت للرياح ساقيها وركضت مبتعدة بأقصى سرعة عنك
شعرت وقتها أن روحها تولد بداخلها من جديد كشعور الخارج من الأسر
ليقابل العالم والبشر بوجه جديد ،
بل وشعرت أنها تقابل روحها بوجه جديد ، تتحرر من داخلها من كل شيء
من الآلام والأحزان التي أثقلتها ومن التعاسة التي تورطت فيها لبعض الوقت
 لتعاود الأمل في لقاء يجمعها بمن يمنحها الأمان الذي فقدت !!